الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وأنا أقول أبدا إن الألفاظ خدم للمعاني، لأنها تعمل في تحسين معارضها، وتنميق مطالعها.
.[سورة الحشر: آية 21] {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القرآن عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)}وقوله سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا القرآن عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [21]} وهذا القول على سبيل المجاز. والمعنى أن الجبل لو كان مما يعي القرآن ويعرف البيان، لخشع في سماعه، ولتصدّع من عظم شأنه، على غلظ أجرامه، وخشونة أكنافه. فالإنسان أحق بذلك منه، إذ كان واعيا لقوارعه، وعالما بصوادعه. اهـ..فصل في التفسير الموضوعي للسورة كاملة: قال محمد الغزالي:سورة الحشر:{سبح لله ما في السماوات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم} تسبيح الله هنا قبل طرد اليهود من ديارهم يشبه تحميده في سورة الأنعام بعدما استأصل الظلمة وطهر الأرض منهم {فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين}. إن خلو الأرض من الطغاة نعمة جليلة، وقدرة كل إنسان على الاستمتاع بحقوقه خير عظيم. وما أجمل أن يصبح المرء آمنا في سربه معافى في بدنه لا يتسلط عليه ظالم ولا يحيف عليه متكبر.. لقد ظل اليهود في يثرب وحولها ينتمون إلى التوراة،. فما شرفوا الوحي، ولا نشروا العدل، ولا ناصروا التوحيد، ولا حذروا من اليوم الآخر. فلما جاء الإسلام وشرع يهدى عبيد الأصنام إلى الله، ضاقوا به ونالوا من نبيه وأتقنوا صناعة الحرب وحولوا مواطنهم إلى حصون، وظنوا أنه لن يقدر عليهم أحد {ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين} كان من الممكن أن يبقوا لكنهم بغتة فكروا في قتل الرسول وهو بينهم آمن مسترسل، فلما شعر بغدرهم ترك المكان عائدا إلى المدينة، ثم قرر إجلاءهم {ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب}. وهكذا عادوا من حيث جاءوا. والسورة تفيد أن هذا أول الحشر، كأن هناك حشرا آخر ينتظر القوم في الغد القريب أو البعيد! ونحن ننتظره معهم، فإن اليهود- في غفلة من المسلمين- أقاموا لأنفسهم دولة، فماذا صنعوا بدولتهم؟ هل ذكروا الله بخير؟ هل جعلوا الحضارة الحديثة تؤمن باليوم الآخر؟ إنهم انتهزوا عجز المسلمين وتفريطهم، فزادوا الطين بلة واتفقوا مع أوروبا وأمريكا على دحر تراث السماء وعبادة العجل الذهبي. وعندما يثوب المسلمون إلى رشدهم ويصطلحون مع ربهم، فسيرثون الدولة ويرجع بنو إسرائيل إلى الأراضي التي جاءوا منها. وقد منح النبي عليه الصلاة والسلام أرض بني النضير هدية إلى فقراء المهاجرين، وبذلك أعاد التوازن إلى المجتمع الإسلامي في المدينة! فإن المهاجرين صودرت أموالهم وبيوتهم في مكة، وتحملوا هذه المحنة في ذات الله. ومع أن الأنصار واسوهم وفتحوا لهم قلوبهم ودورهم، إلا أن الحل الأمثل في توريث المهاجرين ما ترك اليهود. والتعليل المذكور في السورة {كي لا يكون دولة بين الأغنياء}. ثم شرح حال أولئك المهاجرين، فقال: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}. وبذلك رسا المجتمع على قواعد عادلة وشرع يؤدى رسالته. وفي عصرنا هذا كما في عصر النبوة عرب منافقون لا يرون حرجا في أن يعيشوا مع اليهود ويقاسموهم حياة خشنة أو ناعمة. والواقع أن الفريقين لا دين لهم. فالدين عند اليهود ليس نقاء قلب وزكاة سيرة وسماحة يد. إنه أثرة طافحة وصلف غريب. والعرب المنافقون لا يصدقون أن الله اختار جنسهم لرفع المستوى الروحي والعقلي للناس، إنهم طلاب حياة وحسب!! فلا عجب إذا ألف أحدهم الآخر وأيده {ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون}. وعلاقة اليهود بالآخرة واهية. والأسفار الأولى للعهد القديم- التوراة- لا تتحدث عن ثواب وعقاب وجنة أو نار، إنها تاريخ جاف لشعب غليظ الرقبة. وهذا الفكر المادي صبغ الحضارة الحديثة، وأغرى الجماهير بعبادة اليوم الحاضر ونسيان ما وراءه. ولم تستطع النصرانية بعدما تخلت عن سيرة المسيح أن تقاوم هذا العوج. فأصاب العالم كله ضر شديد. ولذلك جاءت هذه السورة تدفع الناس دفعا إلى معرفة الله وإيثار ما عنده وقربت الآخرة حتى جعلتها الغد المحقق! {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}. إن معركة هائلة سوف تدور بين العرب واليهود، ولن يعدم اليهود نصراء لهم من جماهير الأوروبيين الذين يحقدون على الإسلام ولا يعرفون لا عيسى ولا محمدا.. والسؤال الذي لابد من الإجابة عنه: متى يدخل المسلمون في الإسلام؟ متى يصطبغون بروح الإسلام ويعيشون في ظل أحكامه؟ متى يمشون تحت علم القرآن؟ إن نبيهم قاد أمته من المسجد، ورفع مستواها العلمي والخلقي من صفوفه المتراصة وراءه. فلما اتصلوا بالمشارق والمغارب نقلوا الجماهير من الأرض إلى السماء {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}. لقد ختمت سورة بني النضير بنحو عشرين اسما من أسماء الله الحسنى.. تشرح طبيعة العلاقة بالله الواحد. وتعلى هذه العلاقة كي تحيط بالنشاط الإنساني كله. إن العالم في ظل الديانات القاصرة لا تحكمه إلا غرائز السوء، وهو يكافح من أجل مستوى رفيع للمعيشة هنا.. أما هناك عند الله، وبعد لقائه، فلا فكر ولا استعداد. اهـ..في رياض آيات السورة الكريمة: .فصل في أسرار ترتيب السورة: قال السيوطي:سورة الحشر:آخر سورة المجادلة نزل فيمن قتل أقرباؤه من الصحابة يوم بدر وأول الحشر نازل في غزوة بني النضير، وهي عقبها، وذلك نوع من المناسبة والربط وفي آخر تلك: {كتب اللَه لأَغلبن أَنا ورسُلي} وفي أول هذه: {فأَتاهم اللَهُ مِن حيثُ لم يحتسبوا وقذفَ في قلوبهم الرعب} وفي آخر تلك ذكر من حاد اللَه ورسوله، وفي أَول هذه ذكر من شاق اللَه ورسوله. اهـ..تفسير الآيات (1- 4): قوله تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)}.مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:{بسم الله} الملك الأعظم الذي لا راد لأمره فلا خلف لعباده (الرحمن) الذي عمت نعمة إيجاده فلا محيص عن معاده (الرحيم) الذي خص أهل وداده بالتوفيق لما يرضيه عنهم فيوجب لهم الفوز بإسعاده.لما ختمت المجادلة بأنه معز أهل طاعته، ومذل أهل معصيته ومحادته، علله بتنزهه عن النقائص تأييدًا للوعد بنصرهم فقال: {سبح} أي أوقع التنزيه الأعظم عن كل شائبة نقص {لله} الذي أحاط بجميع صفات الكمال.ولما كان الكفار من جميع بني آدم قد عبد بعضهم الشمس وبعضهم القمر وبعضهم غيرهما من الكواكب، وكانت الكواكب مبثوثة في السماوات كلها لا تخص سماء بعينها وكذا الملائكة، جمع دلالة على أن الكل عبيد فقال: {ما في السماوات} أي كلها.ولما كان الكلام في النهي عن موادة الذي يحادون الله، وكان ذلك لمن دون الخلص، أكد بإعادة النافي لاحتياجهم للتأكيد فقال: {وما} ولما كان جميع ما عبدوه ما أشركوا به من الأرضيات من شجر وصنم وبقر وغيرها لا يعد والأرض التي هم عليها، أفرد فقال: {في الأرض}.ولما شمل هذا جميع العالم، أشار إلى أن عظمته لا تنتهي فقال: {وهو} أي والحال أنه وحده {العزيز} الذي يغلب كل شيء ولا يمتنع عليه شيء {الحكيم} الذي نفذ علمه في الظواهر والبواطن وأحاط بكل شيء فأتقن ما أراد، فكل ما خلقه جعله على وحدانيته دليلًا، وإلى بيان ما له من العزة والحكمة سبيلًا.وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لا خفاء باتصال أيها بما تأخر من آي سورة المجادلة، ألا ترى أن قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تتولوا قومًا غضب الله عليهم} إنما يراد به يهود فذكر سبحانه سوء سريرتهم وعظيم جرأتهم ثم قال في آخر السورة {لا تجد قومًا يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله} فحصل من هذا كله تنفير المؤمنين عنهم وإعلامهم بأن بغضهم من الإيمان وودهم من النفاق لقبيح ما انطووا عليه وشنيع ما ارتكبوه، فلما أشارت هذه الآي إلى ما ذكر أتبعت بالإعلام في أول سورة الحشر بما عجل لهم من هوانهم وإخراجهم من ديارهم وأموالهم وتمكين المسلمين منهم، جريًا على ما تقدم الإيماء إليه سوء مرتكبهم، والتحمت الآي باتحاد المعنى وتناسبه، وتناسج الكلام، وافتتحت السورة بالتنزيه لبنائها على ما أشار إليه غضبه تعالى عليهم إذ لا يكون إلا على أعظم جريمة وأسوأ مرتكب وهو اعتداؤهم وعصيانهم المفصل في مواضع من الكتاب وقد قال تعالى فيهم بعد ذكر غضبه عليهم {أولئك شر مكانًا وأضل عن سواء السبيل} [المائدة: 60] وقال تعالى: {لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون} [المائدة: 78] فبين تعالى أن لعنته إياهم إنما ترتبت على عصيانهم واعتدائهم، وقد فصل اعتداءهم أيضًا في مواضع، فلما كان الغضب مشيرًا إلى ما ذكر من عظيم الشرك، أتبعه سبحانه وتعالى تنزيه نفسه جل وتعالى فقال: {سبح لله ما في السماوات وما في الأرض} وإنما يرد مثله من التنزيه أثر جريمة تقع من العباد وعظيمة يرتكبونها وتأمل ذلك حيث وقع، ثم عاد الكلام إلى الإخبار بما فعل تعالى بأهل الكتاب مما يتصل بما تقدم، ثم تناسجت الآي- انتهى.ولما نزه نفسه الأقدس دل على ذلك التنزه على العزة والحكمة بدليل شهودي من أنه أنفذ ما كتب من أنه يغلب هو ورسله ومن أنه كبت الذين حادوه وخيب ظن الذين نافقوا، فتولوا اليهود من أهل الكتاب ليعتزوا بهم، فأذل اليهود وطردهم من مهبط الوحي وأخزى المنافقين الذين جعلوهم محط اعتمادهم وموضع ولايتهم وودادهم، فقال: {هو} أي وحده من غير إيجاف خيل ولا ركاب {الذي أخرج} على وجه القهر {الذين كفروا} أي ستروا ما في كتبهم من الشواهد التي تشهد لمحمد صلى الله عليه وسلم بأنه النبي الخاتم وما في فطرهم الأولى من أن اتباع الحق أحق، وقبح عليهم كفرهم بقوله موضع {من بني النضير} أو {اليهود} مثلًا: {من أهل الكتاب} أي الذي أنزله الله على رسوله موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، وفي التعبير ب {كفروا} إشعار بأنهم الذين أزالوا بالتبديل أو الإخفاء ما قدروا عليه مما بقي من التوراة دالًا على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.ولما كان الوطن عديل الروح لأنه للبدن كالبدن للروح، فكان الخروج منه في غاية العسر، دل على مزيد قهرهم به بأن قال: {من ديارهم} ولما كان منهم من جلا من المدينة الشريفة إلى خيبر، وهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب ولحق سائرهم بأريحا من أرض الشام أرض المحشر، ولحق بعضهم بالحيرة، لوح إلى فتح خيبر وحشرهم منها حشرًا ثانيًا بقوله معللًا أو موقتًا: {لأول} أي لأجل أول أو عند أول {الحشر} وفي ذلك إشارة إلى أن كل بلد حشروا إليه سيفتح، ويزلزلون منه زلزلة أخرى، لا تزال مصائبهم بأهل الإسلام قائمة حتى يكون الحشر الأعظم بالقيامة، والحشر: الجمع من مكان والسوق إلى غيره بكره، وسمي أولًا لأنهم أول من أجلي من اليهود من جزيرة العرب، والحشر الثاني لهم من خيبر على زمن عمر رضي الله عنه، وعند ابن إسحاق أن إجلاءهم في مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من أحد وفتح قريظة في مرجعه من الأحزاب وبينهما سنتان، قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «اخرجوا قالوا: إلى أين، قال: إلى أرض المحشر»، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من شك أن المحشر بأرض الشام فليقرأ هذه الآية. انتهى.
|